الذهب .. ذاك المعدن الأصفر الرنان ذو البريق الأخاذ والجمالية الساحرة والقيمة الخالدة ، هو رمز للأناقة والرقة والبهاء ، فتنت النساء به منذ القدم ، فكن يتسابقن للتزين والتباهي ويتفاخرن بامتلاكه لأنه يضفي عليهن جمالاً رائعاً ، لاكتنازه قيمة جمالية خالدة وقيمة اقتصادية لم تنتقص منها تغيرات الزمن وتطوراته ، فبقي الذهب رمزاً للجمال ومصدراً للقوة الاقتصادية ومؤشراً لها ، عرفته الحضارات المتعاقبة ودللت عليه آثار الناس ومقتنياتهم في مختلف الأشكال والأصناف كتيجان الملوك وأوسمة القادة والفرسان الشجعان .
لقد عرفت مصر هذا المعدن وأعلت من شأنه منذ بداية التاريخ تقديراً لقيمته وسر بقائه ، فكانت السباقة في استخراجه من باطن الأرض وتعدينه ، كما كانت سباقة للإبداع في صياغة المجوهرات والقلائد وإهداء العطايا والمنح ، ولذلك ارتبط الذهب بالتاريخ المصري القديم والفراعنة وآثارهم ومقتنياتهم . وكما المصريين القدماء كانت شعوب العالم كله عبر العصور ضالعة في استخراج وتعدين الذهب وصياغة الحلي والمجوهرات ، وفي عصرنا اليوم لم يقتصر استخدام معدن الذهب الفاتن على الحلي والزينة ، بل تعداه إلى أبعد من ذلك بكثير فاستخدم كركيزة للاقتصاد العالمي وقوة العملات المتداولة ، كما في الاستخدامات الصناعية والطبية والتكنولوجية وغيرها .
لطالما كان الذهب منذ العصور البدائية القديمة فاتناً لكل ناظر إليه ، ومنذ عثر الإنسان على حبيبات الذهب بالقرب من الشواطئ وعلى تخوم الأنهار وفي التربة ، وهو يقلبها بيديه يميناً وشمالاً مفتوناً بلمعانها وتلألئها .
في العصر الحجري القديم بدأت جماعات البشر بالتجمع لأول مرة في التاريخ ، وما إن تكونت المراكز الحضرية حتى ارتفعت قيمة الذهب ارتفاعاً ملحوظاً ، والسبب أن الإنسان بدأ يستخدمه في بعض الطقوس الدينية وفي عمل الحجب والتمائم التي اعتقد أنها تقيه وتوفر له الحماية من بعض القوى الشريرة الغامضة التي قد تؤذيه . وحتى يتقي إنسان العصر الحجري هذه القوى الشريرة المعادية ويحمي نفسه من أضرارها فإنه كان يقوم بربط التمائم الذهبية على يديه أو على كواحل قدميه أو بتعليقها على رقبته أو فوق صدره ، وقد استمرت هذه الطقوس عند بعض الشعوب حتى يومنا هذا .
وبمرور الوقت أضاف الإنسان إلى نظرته العقائدية والدينية اعتباراً آخر للذهب ، وبدأ ينظر إليه كمقياس للثراء والوجاهة والسلطان والعظمة .
الذهب واكتشاف القارة الأمريكية :
كما ازدهرت التجارة والصناعة والحياة الفكرية والأدبية والفنية في أوروبا خلال عصور النهضة ، فقد ازدهرت كذلك العملية التعدينية بشكل كبير ، وذلك بعد أن اتجه بعض الأثرياء للاستثمار في مناجم الذهب والفضة والنحاس والرصاص في كل من أستراليا والمجر وإسبانيا وبعض الدول الإفريقية .
ومن الأسباب التي أدت إلى ازدهار العملية التعدينية أن المعادن في حد ذاتها ( خصوصاً الذهب ) كانت واحدة من الأسباب المهمة التي حدت بالمغامرين البرتغاليين والإسبانيين ، ثم من بعد ذلك البريطانيين والفرنسيين والألمان ، أن يستكشفوا المحيط الأطلسي غرباً وجنوباً ، وذلك بهدف اكتشاف أراض جديدة تكون غنية بالمجوهرات والكنوز الذهبية .
وقبيل اكتشاف أمريكا في عام 1492 كانت المعادن الثمينة والذهب قليلة في يد الأوروبيين ، وبسبب هذا الفقر المدقع لم يكن أمام أبناء أوروبا أمثال كولومبوس من سبيل سوى البحث عن أراض جديدة غنية بالمعادن ، لعلها تخرج أوروبا من أزمتها الاقتصادية وفاقتها المادية . وهذا يعني أن مهمة كولومبوس وأقرانه لم تكن الاستكشاف الجغرافي بقدر مما كانت محاولة الاستحواذ على المعادن الثمينة . وكان كولومبس يعتقد أنه متى اتجه غرباً فإنه سيجد طريقاً ميسوراً إلى مناجم الذهب اليابانية وبلاد الهند الغنية .
إن قطاع التعدين والمناجم وخصوصاً في مجال استخراج الذهب والبحث عنه قد شهد طفرة هائلة وتطوراً مذهلاً خلال عصور النهضة ، سواء من ناحية ميكانيكية الاستخراج أو من ناحية الإنتاجية وعدد المناجم المنتجة .
ويكمن السبب وراء الربط بين بداية العصر الحديث واكتشاف أمريكا في أن الأراضي الأمريكية كان لها الدور الأبرز في رفع إنتاجية الذهب العالمية في الفترة بين عامي 1492 – 1600 ، حيث استخرج منها حوالى عشرة ملايين أوقية من الذهب الخالص ، كانت تمثل حينذاك حوالى 40 % من جملة الإنتاج العالمي . وبالإضافة إلى ذلك فإنه في القرن الثامن عشر أنتجت أمريكا 48 مليون أوقية ذهب ، وهي تعادل حوالي 80 % من إجمالي الإنتاج العالمي المعروف آنذاك .
وقد تزايد معدل الإنتاج العالمي مرتين خلال الفترتين بين الأعوام 1820 – 1880 ، و 1880 – 1920 . والفترة الأولى تحدد اكتشاف رواسب الذهب الكبرى في كل من سيبيريا (في الأحواض الترسيبية المحيطة بنهري ينيسي ولينا) ، وكاليفورنيا وكولومبيا البريطانية (في منطقة كاريبو) ، وأستراليا ، ونيوزيلندا (في منطقة كرومندال ، وتاميز ، وأوتاجو) . أما الفترة الثانية فقد تم خلالها اكتشاف الذهب في كل من آلاسكا ووسط كندا (على تخوم بحيرات لاردر ، ورايز ، وكيركلاند ، وكذلك البحيرة الحمراء) ، وأستراليا (في منطقة كالجورلي) ، وبجانب رواسب الذهب في منطقة وتوتراسراند جنوب إفريقيا .
ومنذ عام 1920 وحتى الآن يمر العالم في إنتاجيته للذهب بمرحلة واحدة تتميز بملكته جنوب إفريقيا . ومع أن السمة الرئيسية لهذه المرحلة هي الزيادة المضطردة في الإنتاجية ، إلا أن هذا لا يمنع من أن هناك بعض الفترات التي شهدت تناقصاً واضحاً في الكميات المنتجة .